
زائرة في منتصف الليل
بقلم / محمد عاشور
تسلل من وسط عائلته في الدور السفلي تاركاً لهم المكان الذي امتلأ بكل العائلة ، فاليوم الخميس والجميع يتجمعون ويسهرون في بيت العائلة حتى ساعة متأخرة، ومنهم من ينام ليستيقظ متأخراً، كان المكان يملؤه اللغط ، كل جماعة ينتحون ناحية فيخرج صوتهم كأنه سيطغى على صوت الجماعة الأخرى ، حتى تحول المكان مثل السو...ق .
شدة الحر زادت من عصبيته ، وازدادت عصبيته أكثر بتتبع أفراد العائلة له في كل مكان يخلو فيه بنفسه ، كاد أن ينفجر فيهم لولا أن تمالك نفسه وراوغهم جميعا وصعد إلى أعلى حتى كاد أ، يدخل بيته الخاص في الطابق الثالث والأخير الذي يقيم فيه بمفرده حتى يتزوج لكنه آثر الصعود إلى السطح هرباً من الجميع تاركاً بقايا الضوضاء المتلاشية الصاعدة من أسفل .
وقف على السطح متطلعاً إلى الأفق ، نظر إلى الزراعات التي تحيط بيتهم وقد طغى عليها اللون الأسود القاتم ، وتطلع إلى المنازل التي تنتشر هنا وهناك وقد كونت كتلاً سوداء وسط الأرض الزراعية إلا من تلك المصابيح القليلة التي تنير على استحياء بعض قطع الظلام
نظر إلى السماء وبرغم الظلام الخفيف أعجبه منظرها البديع وهاله كم النجوم اللامعة بها .
استلقى على ظهره متطلعاً إلى النجوم واضعاً يديه وقد تشابكت أصابعه – خلف رأسه ثم وضع ساقاً فوق أخرى ، لم يذكر إنه رأى السماء صافية بهذا الجمال ، مد بصره كي يصل إلى بداية النجوم ، وقعت عيناه على طريق التبانة ، هذا الطريق الذي كانت والدته تحكي له عنه " أنه زمان كان لصوص التبن عندما يسرقونه كان يتسرسب التبن منهم حتى يعرف صاحبه من سرقة " داعبته ابتسامة وهز رأسه لكلام والدته ثم أخذ يجيل بصره في طريق التبانة عدة مرات لكن استرعى انتباهه عدد الشهب التي تنطلق في اتجاهات مختلفة قاطعة سكون السماء .
مرت نسمة هواء باردة لطفت وجهه فأخذ منها نفساً عميقا ليرطب به صدره الظمآن لكن سرعان ما اختفت هذه النسمة وعاودت الحرارة تلفح من جديد .
أخذ يتقلب فوق السطح الخراساني من جديد وكلما ثبت على ظهره دقق النظر في النجوم وقد أعجبته لمعانها وأخذ يعدها، عاود التقلب من جديد حتى استقر هذه المرة على ظهره في وضع استرخاء وقد ألقى بساقيه ويديه على سجيتهما وفغر فاه ليتنفس أكبر قدر من الهواء ، أحس أن النوم يداهم جفونه ويتسلل الخدر إلى بقية جسده فاستسلم له وقد التهمه الشعور بالغفوان وسرعان ما غاص في النوم .
جلس فزعاً كأن تعباناً لدغه ، كان يتنفس بسرعة والعرق يتصبب من كل جسده ويبلل وجهه وشعره ، مسح جبينه بسبابته فتساقطت بعض قطرات العرق على السطح فجفت بسرعة أخذ شهيقاُ قويا ثم أخرجه في هدوء وبدأت تعاوده الطمأنينة حتى هدأ .
أرسل بصره إلى الأفق ، السكون يخيم على كل شبر على امتداد البصر ، أحس أن جسده متيبساً فاستدار بنصف جسده العلوي يطقطق ظهره يمينا ويساراُ وقعت عيناه على شيء أسود يشبه الأسطوانة في حجم البرميل الضخم غير أنها أطول قليلاً وموضوعة على جانبها ، أغمض عينيه وفركها بسبابتيه ودقق النظر بعدا أن فرك حدقيته وهو يسأل نفسه في استغراب:
ما هذا الشيء ؟ ومن الذي أحضره إلى هنا ؟
وكيف لم استيقظ عند إحضاره ؟
ظل جالساً لحظة وهو يطيل النظر إلى هذا الشيء الذي بدأ يتصاعد منه البخار الخفيف ، ثم أخذت تفتح من أعلى منتصفها مثل المحارة وقد تزايد تصاعد البخار البارد الذي أخذ يظهر من خلاله ضوء فيروزي رائع من المكان الذي أخذت تفتح عنده، قام ليقترب من هذه الأسطوانة التي مازالت تفتح كالمحارة ، وأخذ يدور حولها من بعيد ،مد عنقه إلى الأمام ليستطلع ماهية هذا الشيء .
استمرا جانبها في الابتعاد عن بعضها حتى انفتحت عن آخرها .
ابتلع ريقه وهو يتقدم ببطء ليرى امرأة دقيقة الملامح شديدة البياض لا يظهر منها سوى وجهها أما بقية جسدها ورأسها فكأنهما في قطعة واحدة من القماش الأبيض كأنها كفن ، حتى انه ظن أنها ميتة .
أحس بجفنيها يرتعشان وهي تستيقظ ، خطا خطوة إلى الخلف وهو مزعور ثم عاود التقدم ثانية ليراها فكان وجهها يتحرك يميناً وشمالاً كأنها تستيقظ من كابوس ، جحظت عيناه وهو يرى تلك الزرقة الصافية التي تلون عينيها ، عندما فتحتها مره واحدة ، فأحس كان عينيها ستضيء .
وجدها ترفع حاجبيها وتنظر إليه وهي واجمة ، وقد اكتست ملامحها بالحزن، واعتدلت جالسة في اسطوانتها المضاءة باللون الفيروزي ، ثم نكست رأسها وانفرطت من عينيها دمعات لامعة بالون الفيروز .
رفعت رأسها إلى السماء ثم قامت متثاقلة على قدميها العارية ، ونزلت من الجزء المنحدر في مقدمة الأسطوانة ، ثم مست بأنامل أصابعها الأرض في خوف شديد كأنها تستطلع مواقع قدميها في رعب ، ثم ما لبثت أن خطت عدة خطوات بعيداً عن الاسطوانة وهي تتلفت حولها تاركة عينيها تدور في السماء كأنها تبحث عن شيء .
اقترب منها في حذر وخوف شديدين ، وجدها تنظر إلى الاسطوانة وقد احتوى ملامحها الأسى .
أحس بالوحشة التي احتوت المكان وبالقشعريرة تملأ جسده ، فقرر الهرب بسرعة تاركا الفتاة وحدها فقد أحس أنها من الجنيات التي تتشكل في صورة إنسية ، لكنه ما أن استعد للجري حتى سمع طنيناً يصدر من الأسطوانة فاستدار إليها وقد فغر فاه وهو يرى الاسطوانة ترتج في مكانها ويخرج منها صوت كالأزيز، وأخذ يتصاعد منها ما يشبه الضباب لكنه بارد جداً حتى إمتلأ به المكان ، فأخذ يتراجع إلى الخلف وهو يحرك يديه على وجهه كأنه يهش هذا الشيء عن وجهه وصوت الاسطوانة يعلو ثم ساد الصمت .
أخذ ما يشبه الضباب يختفي يتبدد شيئاً فشيئاً ، فأخذ يستبصر ما حوله ، ووجد الفتاة جاثية على ركبتيها كأنها في محراب ، ثم نظر ناحية الاسطوانة فلم يجدها ، هرول إلى المكان الذي كانت توجد فيه منذ قليل لكنه لم يجد مكانها إلا طبقة رقيقة من الثلج أخذت تذوب ، نظر إلى الفتاة فوجدها تحدق ببصرها في السماء فأخذ ينظر إلى السماء في كل مكان لكنه لم يرى شيئاً ،ما هذا الذي يحدث ؟ هل هو حلم أم حقيقة ؟ وإذا كان حلماً ... لم توجد هذه الفتاه هنا ؟
أخذ يحدث نفسه وهو يدير بصره ناحية السماء تارة وتارة ناحية الفتاة التي ظلت جالسة كما هي ، التي تنظر إليه بعينيها الزرقاء الصافية الممتلئة بالحزن ، اقترب منها وما زال متمسكاً ببعض الحزر والخوف منها ، ثم قال لها في خوف : من أنت ؟ وماذا تفعلين هنا ؟ وما هذا الشيء الذي كان هنا ثم اختفى ؟
كان يلقي عليها الأسئلة وينصت بين السؤال والآخر لعله يسمع كلمة منها . لكنه لم يسمع إلا الصمت ، جلس غير قريب منها ينظر إليها ويفكر،" ماذا سيفعل مع هذه الـ ........ " لا يعرف ماذا يطلق عليها ، هل سيتركها مكانها فوق سطح المنزل ، وماذا سيقول الناس عندما يعلمون بأمرها ؟ بل ماذا ستقول عائلته عندما يرونها ؟ هل يخبرهم أنها كائن فضائي في صورة إنسان ؟ ومن سيصدقه ؟ ... آاااه .... لماذا لا تذهب من حيث أتت وتريحني ، وأسئلة كثيرة تتردد في جنبات عقله وأمنيات يتمنى أن تتحقق .
برقت عيناه عندما خطرت شقته على باله ، إن هذه الشقة التي جعل لها خصوصية عند كل من في البيت فلا يستطيع أن يقربها أحد إلا إذا طلب منهم ذلك راقته الفكرة وهو ينظر إليها وهي واجمة لا تتحرك حتى بدأت نسمات الفجر الرقيقة تعبث بخصلات شعرها .
طلب منها النهوض لتذهب معه ، فلم تتحرك ، أخذ يكلمها لكنه لا يعلم إذا كانت تفهم أم لا ، مد يده ليحثها على النهوض معه ، لكنها انتفضت في فزع مما أفزعه أيضا وأصدرت صوتاً مثل مواء القطط الخائفة ، تعجب وصمت قليلاً ، ثم أخذ يطلب منها في هدوء - وفي الوقت نفسه يشير إليها- أن تتحرك معه ، أخذ يتحرك بظهره ويشير إليها بأصابع يده لتتبعه .
أخذت تنهض ببطء حتى وقفت على قدميها مد يده ليساعدها على المشي ، حركت يمناها في وجل ، عندما أمسك يدها وجدها باردة جداً كأنها يد إنسان فارق الحياة ، أراد أن يسحب يده بسرعة لكنه تماسك وأخذ يوجهها ناحية السلم في عناية وحزر وصحبها درجة درجة كأنه يعلمها المشي .
قابلته العتمة عندما فتح الباب ، مد يده يتحسس مفتاح النور ، وعندا أضاء المصباح أخذت تصرخ وتخفى عينيها بيدها، فأطفأ المصباح فوراً ثم أضاء مصباحاً نوره خافت لتطمئن ، أخذت ترفع يدها عن ووجهها برفق .
شاهد وجهها في الضوء فكان شديد البهاء والسحر وقفت تدقق النظر في ملامحه وإلى إحدى الصور المعلقة على الحائط ، أخذت تنظر فيما حولها وهي واقفة ترفض الحركة ثم أخذت الدموع تنهال من عينيها ، كانت دموعها تسقط من عينيها متماسكة بيضاء مثل حبات الثلج ثم تبدأ في الذوبان بعد أن تسقط على الأرض .
التقط إحدى الدمعات من على الأرض قبل أن تذوب فوجدها باردة ثم تحولت شيء سائل لزج بين يديه رآها تمسك عنقها بيديها ثم تتلوى تحدث صوتا كالذي كانت تفعله في أعلى الذي يشبه المواء كأنها ستصاب بحالة من الصرع .
أخذ يسألها : أتريدين ماء ؟ .. أتريدين أن تشربي ؟ لكنها لم تتوقف ، فانطلق ناحية المطبخ وفتح الثلاجة وعاد ببعض الماء لكنه لم يجدها ، أخذ ينظر حوله فربما كانت أو هناك ثم أنطلق صاعداً السلم في قفزات سريعة ، ونظر على السطح نظرة سريعة ، فوجدها نائمة مكان الأسطوانة وهي تنظر إليه ، جرى ناحيتها وجلس على ركبتيه بالقرب من رأسها ، أخذ فكها السفلي يتحرك في رعشة كأنها تحاول أن تتكلم ، ثم أخذت تتهته ثم نطقت بصعوبة فقالت إنني مطرودة من وطني وأعاقب ثم أصابتها حالة من الصرع بعدها تصلب جسدها واتسعت حدقتاها ،وأخذت تصرخ صراخاً مكتوماً وهي تجز على أسنانها وفجأة تحولت إلى تمثال من الثلج .
ظل مذهولا مما يحدث ، لكنه رآها تذوب وتذوب ولا تفتأ تذوب.

0 التعليقات: