الباب الصغير ....... بقلم الكاتب / مصطفى رزق

عندما ننظر للوضع الذى آلت إليه البلاد الآن نتساءل, هل كان يكفى تغيير بعض الوجوه ليكتنفنا شعور جيد بالراحة, ومحاولة لإصلاح بعض الأمور؟!!...هل قمنا بثورة حقا؟!!...ماذا تعنى كلمة ثورة, وهل أدرجنا لها تعريفا فى قاموسنا؟؟...كيف بدأنا باقتحامنا صرح الظلم والفساد, ثم انتهى بنا الأمر بالخروج من الباب الصغير؟!!
__________________________________________

(الباب الصغير)

وقف (على) أمام المرآة يعدِّل هندامه للمرة الثالثة خلال ربع الساعة, وبدا متوترا جدا وهو يستعد لتلك المقابلة التى أعدّ لها منذ فترة طويلة, وجلس شقيقة (أحمد) يراقبه, ويضحك على حالته المتوترة والتى بدت مضحكة بسبب حركاته المضطربة أثناء تعديل ملابسه وإعداد حقيبته, وقال له فى سخرية لم ينتبه إليها (على):
- هل تعتقد أنك ستصبح كاتب فى الجريدة بفضل هذا المقال الذى ترغب فى تقديمه إلى رئيس التحرير؟!
أجابه (على) فى لهفة دون أن يلتفت إليه:
- أتعشم هذا, فقد إستغرق منى وقتا طويلا فى تنسيق هذا المقال حتى يظهر بصورة جيدة, كما أننى أعتقد أنه سيكون أفضل مقال يتم تقديمه هذا الشـ..
قاطعه (أحمد) بكلمات مقتضبة:
- لست فى حاجة إلى الشرح
إلتفت إليه (على) ونظر إليه فى دهشة, فتابع (أحمد) قائلا:
- لقد قرأته.
تهللت أسارير (على) وسأله فى لهفة:
- حقا!, وما هو إنطباعك نحوه؟
مطّ (أحمد) شفتيه ولوح بيده بحركات مسرحية وهو يقول بسخرية:
- لا بأس به...أعتقد أنه ينتظرك مستقبل مشرق فى الكتابة.
نظر إليه (على) بضع لحظات وبدا أن كلمات شقيقه لم ترق له, فأمسك المقال ولوح به وهو يقول بصوت مرتفع:
- الجهلاء أمثالك لا يدركون القيمة الحقيقية وراء تلك الأعمال, فهم يقرأونها فقط بإعتبارها كلمات مرصوصة, ولا يدركون المغزى الحقيقى منها.
ثم فتح المقال وقلب بعض صفحاته بسرعة وهو يستطرد:
- هل تعتقد أن كل شىء سيسير على نهج النظام القديم!...التغييرات التى قامت بها الثورة ملموسة وواضحة, ولأننى كتبت مقالى عن أحد جوانب الثورة؛ فأنا أتوقع أن يكون له تأثير واضح, وليس كما تعتقد أيها الجاهل.
حاول (أحمد) البحث عن كلمات ليرد بها, ولكن ذلك كان عسيرا؛ فاكتفى بإبتسامة واسعة زادت من حنق شقيقه (على) فأشاح بوجهه وهو يقول فى حنق:
- ألا إن الحمقى فى نعيم!
ثم عاد مرة أخرى يقف أمام المرآة وهو يتظاهر بأنه يقف أمام رئيس التحرير, وكأنه يقوم بعمل بروفة صغيرة, ثم تنحنح قليلا قبل أن يقول:
- حسنا يا سيدى, لقد أعددت مقالا صغيرا عن الثورة, وأتوقع أن ينال إعجابك, وسأكون شاكرا إذا قبلت نشره فى الصفحة الأولى...
تناهى إلى مسامعه فى هذه اللحظة صوت ضحكة مكتومة من شقيقه, ولكنه لم يلتفت إليه, وصمت بعض الوقت وكأنه يستمع إلى رد رئيسه الوهمى, ليستطرد بعدها:
- كلا, لا يمكننى الإعتراف بأنه جيد؛ فالحكم لك وحدك, ولكننى سأقرأ عليك الجزء الأخير منه لتتكون لديك فكرة عن مدى جودته.
تنحنح مرة أخرى, ولوح بيده فى حركة مسرحية ثم قرأ بصوت مرتفع قليلا:

" ...ثلاثون عاما مرت من عمر البلاد...ثلاثون عاما إحتار المؤرخون فى تصنيفها ما إذا كانت أعوام رخاء أم أعوام ظلم...ثلاثون عاما وُلد وعاش ومات فيها الكثيرون وهم تحت إسم رئيس واحد...ثلاثون عاما هى تلك المدة التى قضاها الرئيس الأخير فى حكم البلاد...ثلاثون عاما بدأها الشعب بالتفاؤل بالرئيس الجديد, وأنهاها بثورة فى وجهه..."

كان (على) يتنقل بين الكلمات بحماس, وبدا أنه قد عاش فى جو المقال الذى خلقه, وتنقل بين صفحاته, وهو يسير فى الحجرة ويتابع قائلا:

" ...لا يصدق الجميع ما هم فيه الآن, هل هذا هو نفس الرئيس الذى تولى بلادهم قبل ثلاثون عاما!...لم يكن أحد ليتخيل سقوطه حتى فى أحلامه, ولكن الشعب الآن يصنع أحلامه بيبده, ويعيشها على أرض الواقع.
الآن حقق حلمه الذى راوده يوما ما, وإستطاع أن يتخلص من ذلك الرئيس...ذلك الرئيس الذى لم تشفع له أى بطولات قام بها فى حرب التحرير...ذلك الرئيس الذى لم يشفع له أى وسام من الأوسمة التى حصل عليها...ولم يشفع له أى إنجاز أو مشروع قام به فى خدمة البلاد...ذلك الرئيس الذى لم يعد يرغب الشعب فيه ولو يوما واحدا...ولم يعد يراه سوى أنه آفة يجب التخلص منها...ذلك الرئيس الذى لم يستجب لمطالب شعبه وأراد أن يستمر فى منصبه بذرع إحدى جذوره, أو حتى بالدم...ذلك الرئيس الذى بالتأكيد لم يستطع كسر شوكة ذلك الشعب الذى لم يحسن تقديره...رئيسا إعتبره الشعب فى البداية رمزا للمستقبل, ولكن فى النهاية لم يكن إلا جذرا متأصلا للفساد...رئيسا طالبه شعبه فى البداية  بالرحيل فى هدوء, ولكنه فى النهاية أبى إلا أن يخرج...من الباب الصغير"

أنهى (على) كلماته وهو يفرد ذراعيه أمام المرآة فى حركة مسرحية رائعة, ثم ينحنى إنحناءة خفيفة وهو يقول فى حماس:
- هل أعجبك المقال يا سيدى؟
تناهى إلى مسامعه صوت ضحكة ساخرة, فإلتفت إلى شقيقه (أحمد) الذى أخذ يصفق بيده فى تهكم, ويقول فى سخرية:
- يا إلهى!...لقد حركت مشاعرى؛ حتى أننى أشعر بقشعريرة تسرى فى جسدى.
زاد حنق (على) إلى أقصى حد مع سخرية شقيقه المستمرة, ولكنه حاول تجاهل ذلك حتى لا ينفجر فى وجهه, وإكتفى بالنظر إليه لدقيقة كاملة, و(أحمد) ينجح فى كتم ضحكاته رغم أنه يجد صعوبة فى ذلك, وبدا ذلك واضحا لـ(على), ولكنه لم يعلق على ذلك, فتنهد تنهيدة كبيرة وهو يضع يديه حول خصره ويسأل شقيقه بكل هدوء:
- ما رأيك الآن؟...هل أعجبك المقال؟
تنحنح (أحمد) ليكتم ضحته قبل أن يقول:
- رائع, لقد أعجبنى أداؤك كثيرا
ثم أضاف وهو يبتسم إبتسامة خبيثة:
- ولكن من الذى سيخرج الآن من الباب الصغير؟
فهم (على) ما الذى يشير إليه (أحمد),ولكنه لم يعلق على حديثه؛ وإنما أسرع بإعداد حقيبته وتعديل هندامه للمرة الأخيرة قبل أن يلتقط الوسادة الصغيرة ويلقيها فى وجه شقيقه -الذى كان يضحك فى هيستيريا شديدة- وهو يقول:
- شكرا على حسن الإستماع.
ثم إلتقط حقيبته وأسرع الخطى نحو الخروج, وأغلق الباب خلفه فى قوة...باب حجرته الصغيرة.

                                   **********

وقف (على) أمام مكتب رئيس التحرير, وسرى فى جسده توتر بلا حدود عندما سمع صوت السكرتيرة الحسناء تأذن له بالدخول, فتردد لحظة قبل أن يدفع نفسه إلى الداخل.
تقدم (على) فى خطوات بطيئة نحو المكتب الذى يجلس خلفه رئيس التحرير, وهو يتطلع إلى أثاث وديكورات المكتب فى إنبهار و...

" حسنا, لماذا طلبت مقابلتى؟؟ "

قطع أفكاره ذلك التساؤل الذى ألقى به رئيسه, وبدا أنه لا يرغب فى إضاعة الوقت, مما زاد توتر وإرتباك (على), وبدا ذلك واضحا وهو يقدم له المقال ويقول فى خفوت:
- هذا المقال يا سيدى.
نظر إليه رئيسه بضع لحظات قبل أن يمد يده ليلتقط المقال فى خشونة ويقول فى صرامة:
- وما الذى يحتويه هذا؟
تردد (على) لحظة قبل أن يقول فى إرتباك:
- هذا مقال أعددته عن الثورة, وأتعشم أن...أن...
كان لسانه يعجز عن النطق بـ (أن تنشره فى الصفحة الأولى), وبدت له الجملة ثقيلة جدا, ولا يدرى سبب تلك الرجفة التى سرت فى أوصاله فى تلك اللحظة بالذات؛ فاكتفى بقول:
- أن ينال إعجابك.
كان رئيسه يقلب صفحات المقال بلا أدنى إهتمام, و(على) يتابع قائلا:
- لقد سمعت بالصدفة عن تلك المسابقة التى أعلنتها على الكتّاب, وطلبت منهم كتابة أفضل تقرير عن الثورة؛ ففكرت فى أن تكون هذه فرصتى لأعرض عليك موهبتى فى الكتابة, والتى قد تستغلها فى...فى...
لم يجد (على) أى كلمات يكمل بها, فاكتفى بذلك القدر ووقف ينتظر رد رئيسه الذى توقف كثيرا عند الصفحة الأخيرة من المقال, وانتبه (على) لذلك, وفى أعماقه تصاعد الأمل, ولكنه سرعان ما تبخر عندما قام رئيسه بغلق الملف بهدوء وسلمه إليه فى يده وهو يقول:
- محاولة جيدة للكتابة...ولكن للأسف لن يتم نشره.
إبتلع (على) تلك الغصة التى تقف فى حلقه وهو يقول بصوت مبحوح:
- لماذا؟
تنهد رئيسه, ثم شبّك أصابعه أمام وجهه وقال:
- نحن هنا نعمل فى منظومة, ولكل فرد يعمل بها مهمة محددة, ولا يجب الخروج عنها, أو حتى محاولة تطوير نفسه, لأن هذا سيخِل بالإيقاعات الأخرى التى تسير بها المنظومة, فالمحرر يقوم فقط بإرسال الأخبار, والكاتب يقوم بإعادة صياغتها, والناشر يقوم بطباعتها, وأنا أقوم بالإشراف على هذه العملية؛ فكل شخص هنا لديه عمل محدد, ولا يجب الخروج عنه.
لم يفهم (على) فى البداية ما الذى يحاول قوله, ولكنه أدرك ذلك تماما بعد أن إستطرد قائلا:
- لقد تقدم بعض الكتّاب بتقاريرهم المطلوبة منهم, وسيتم نشر التقرير الخاص بالكاتب (حازم حمدى), إنه إبن رجل الأعمال المعروف, لا بد أنك تعرفه؛ فمشاريعه تملأ البلاد, ومنها ما يدعم تلك الجريدة التى تعمل بها.
نطق الجزء الأخير من حديثه بلهجة خاصة, مما جعل (على) يتردد لحظة قبل أن يقول:
- وهل التقرير الذى تقدم به أفضل من تقريرى؟
صمت رئيسه طويلا هذه المرة, ثم تراجع فى كرسييه وهو يقول:
- هناك بعض الأمور التى لا تخضع للقواعد, فشخص ما ينجح؛ لأنه يجب أن ينجح, وشخص ما يحصل على منصب؛ لأنه يجب أن يحصل على المنصب...
ثم نظر إليه بضع لحظات قبل أن يقول بلهجة خاصة وهو يضغط حروف كلماته:
- وشخص ما يُنشر مقاله؛ لأنه يجب أن يُنشر مقاله.
أدرك (على) تماما حقيقة الأمر, ولماذا لن يتم نشر مقاله, ولكنه حاول أن يقول شيئا إلا أن رئيس لم يمهله الوقت ليقول فى حدة:
- لقد إنتهت المقابلة.
لم يستطع (على) أن يعقب على حديثه مع تلك الغصة التى وقفت فى حلقه, والتى شعر بأن حنجرته تتحطم وهو يبتلعها؛ فالتقط المقال بيد أصابها التوتر الزائد بالإرتعاش, وإلتفت يغادر المكتب, وهو يشعر بأن ساقه لم تعد قادرة على حمله, أو أنه قد زاد عمره خمسون عاما, وعندما خرج من المكتب وأغلق الباب خلفه شاهد إحدى الشاشات تعرض صورا للثورة وأحداثها, وكانت الصور تصف موقف الشعب أثناء ثورته, وتعرض اللوحات التى رفعها والشعارات التى كتبها والتى كانت من بينها:

" لا للرشاوى..."
" لا للوساطة..."
" لا للمحاباة..."

وغيرها من الشعارات التى وصفت حال البلاد فى العهد القديم, والتى بسببها قامت ثورة الشعب, وأدرك فى هذه اللحظة أن هناك أمور لا يمكن تغييرها لا بالشعارات ولا بالثورة  ولا حتى بالنار, لأن هذه أمور تترسخ بداخل نفوس الأشخاص منذ أن بدأ الخلق وستستمر إلى نهايته.
 وفى الوقت الذى عرضت فيه الشاشات صور ما بعد الثورة والتى تصف فرحة الشعب بنجاحها, والقضاء على الفساد, إبتسم (على) وقال فى سخرية:
- إذا كان هذا هو النجاح الذى تنشدونه, فثورتكم إلى الضياع.
فهو أيقن فى هذه اللحظة أن نجاح الثورة لم يصل فقط إلا إلى تغيير الوجوه, ولم يدرِ لماذا دار بخلده فى هذه اللحظة أن يقوم هو بثورة يعلن فيها غضبه وإحتجاجه على ما حدث معه, ولكنه عاد ليبتسم مرة أخرى, بل وإتسعت إبتسامته وهو يتخيل أن تصل ثورته إلى النهاية ويجد أن النجاح الذى حققه مجرد سراب؛ فابتسم مرة أخرى وهو يقول فى سخرية:
- ربما كنت محقا أيها الوغد...بعض الأمور لا تخضع للقواعد!
وإلتفت خلفه ليلقى بمقاله فى سلة المهملات, ثم إستدار متجها نحو الباب, وفى اللحظة التى وصل فيها إلى الباب, مرّ أمام عينيه شريط قصير بالحوار الذى دار بينه وبين شقيقه, وترددت فى رأسه تلك الجملة التى ألقاها شقيقه:

" من الذى سيخرج الآن من الباب الصغير..."

عاد ليبتسم مرة أخرى, وشعر أن كل شىء حوله يتعمد إستفزازه, فأمسك مقبض الباب بقوة, وجذبه ليخرج, ثم أغلق الباب خلفه بعنف وهو يقول:
- ربما كنت محقا أيضا أيها الوغد...ولكن باب الجريدة ليس صغيرا.
الباب الصغير 
بقلم / مصطفى رزق 
 
عندما ننظر للوضع الذى آلت إليه البلاد الآن نتساءل, هل كان يكفى تغيير بعض الوجوه ليكتنفنا شعور جيد بالراحة, ومحاولة لإصلاح بعض الأمور؟!!...هل قمنا بثورة حقا؟!!...ماذا تعنى كلمة ثورة, وهل أدرجنا لها تعريفا فى قاموسنا؟؟...كيف بدأنا باقتحامنا صرح الظلم والفساد, ثم انتهى بنا الأمر بالخروج من الباب الصغير؟!!
__________________________________________

(الباب الصغير)

وقف (على) أمام المرآة يعدِّل هندامه للمرة الثالثة خلال ربع الساعة, وبدا متوترا جدا وهو يستعد لتلك المقابلة التى أعدّ لها منذ فترة طويلة, وجلس شقيقة (أحمد) يراقبه, ويضحك على حالته المتوترة والتى بدت مضحكة بسبب حركاته المضطربة أثناء تعديل ملابسه وإعداد حقيبته, وقال له فى سخرية لم ينتبه إليها (على):
- هل تعتقد أنك ستصبح كاتب فى الجريدة بفضل هذا المقال الذى ترغب فى تقديمه إلى رئيس التحرير؟!
أجابه (على) فى لهفة دون أن يلتفت إليه:
- أتعشم هذا, فقد إستغرق منى وقتا طويلا فى تنسيق هذا المقال حتى يظهر بصورة جيدة, كما أننى أعتقد أنه سيكون أفضل مقال يتم تقديمه هذا الشـ..
قاطعه (أحمد) بكلمات مقتضبة:
- لست فى حاجة إلى الشرح
إلتفت إليه (على) ونظر إليه فى دهشة, فتابع (أحمد) قائلا:
- لقد قرأته.
تهللت أسارير (على) وسأله فى لهفة:
- حقا!, وما هو إنطباعك نحوه؟
مطّ (أحمد) شفتيه ولوح بيده بحركات مسرحية وهو يقول بسخرية:
- لا بأس به...أعتقد أنه ينتظرك مستقبل مشرق فى الكتابة.
نظر إليه (على) بضع لحظات وبدا أن كلمات شقيقه لم ترق له, فأمسك المقال ولوح به وهو يقول بصوت مرتفع:
- الجهلاء أمثالك لا يدركون القيمة الحقيقية وراء تلك الأعمال, فهم يقرأونها فقط بإعتبارها كلمات مرصوصة, ولا يدركون المغزى الحقيقى منها.
ثم فتح المقال وقلب بعض صفحاته بسرعة وهو يستطرد:
- هل تعتقد أن كل شىء سيسير على نهج النظام القديم!...التغييرات التى قامت بها الثورة ملموسة وواضحة, ولأننى كتبت مقالى عن أحد جوانب الثورة؛ فأنا أتوقع أن يكون له تأثير واضح, وليس كما تعتقد أيها الجاهل.
حاول (أحمد) البحث عن كلمات ليرد بها, ولكن ذلك كان عسيرا؛ فاكتفى بإبتسامة واسعة زادت من حنق شقيقه (على) فأشاح بوجهه وهو يقول فى حنق:
- ألا إن الحمقى فى نعيم!
ثم عاد مرة أخرى يقف أمام المرآة وهو يتظاهر بأنه يقف أمام رئيس التحرير, وكأنه يقوم بعمل بروفة صغيرة, ثم تنحنح قليلا قبل أن يقول:
- حسنا يا سيدى, لقد أعددت مقالا صغيرا عن الثورة, وأتوقع أن ينال إعجابك, وسأكون شاكرا إذا قبلت نشره فى الصفحة الأولى...
تناهى إلى مسامعه فى هذه اللحظة صوت ضحكة مكتومة من شقيقه, ولكنه لم يلتفت إليه, وصمت بعض الوقت وكأنه يستمع إلى رد رئيسه الوهمى, ليستطرد بعدها:
- كلا, لا يمكننى الإعتراف بأنه جيد؛ فالحكم لك وحدك, ولكننى سأقرأ عليك الجزء الأخير منه لتتكون لديك فكرة عن مدى جودته.
تنحنح مرة أخرى, ولوح بيده فى حركة مسرحية ثم قرأ بصوت مرتفع قليلا:

" ...ثلاثون عاما مرت من عمر البلاد...ثلاثون عاما إحتار المؤرخون فى تصنيفها ما إذا كانت أعوام رخاء أم أعوام ظلم...ثلاثون عاما وُلد وعاش ومات فيها الكثيرون وهم تحت إسم رئيس واحد...ثلاثون عاما هى تلك المدة التى قضاها الرئيس الأخير فى حكم البلاد...ثلاثون عاما بدأها الشعب بالتفاؤل بالرئيس الجديد, وأنهاها بثورة فى وجهه..."

كان (على) يتنقل بين الكلمات بحماس, وبدا أنه قد عاش فى جو المقال الذى خلقه, وتنقل بين صفحاته, وهو يسير فى الحجرة ويتابع قائلا:

" ...لا يصدق الجميع ما هم فيه الآن, هل هذا هو نفس الرئيس الذى تولى بلادهم قبل ثلاثون عاما!...لم يكن أحد ليتخيل سقوطه حتى فى أحلامه, ولكن الشعب الآن يصنع أحلامه بيبده, ويعيشها على أرض الواقع.
الآن حقق حلمه الذى راوده يوما ما, وإستطاع أن يتخلص من ذلك الرئيس...ذلك الرئيس الذى لم تشفع له أى بطولات قام بها فى حرب التحرير...ذلك الرئيس الذى لم يشفع له أى وسام من الأوسمة التى حصل عليها...ولم يشفع له أى إنجاز أو مشروع قام به فى خدمة البلاد...ذلك الرئيس الذى لم يعد يرغب الشعب فيه ولو يوما واحدا...ولم يعد يراه سوى أنه آفة يجب التخلص منها...ذلك الرئيس الذى لم يستجب لمطالب شعبه وأراد أن يستمر فى منصبه بذرع إحدى جذوره, أو حتى بالدم...ذلك الرئيس الذى بالتأكيد لم يستطع كسر شوكة ذلك الشعب الذى لم يحسن تقديره...رئيسا إعتبره الشعب فى البداية رمزا للمستقبل, ولكن فى النهاية لم يكن إلا جذرا متأصلا للفساد...رئيسا طالبه شعبه فى البداية بالرحيل فى هدوء, ولكنه فى النهاية أبى إلا أن يخرج...من الباب الصغير"

أنهى (على) كلماته وهو يفرد ذراعيه أمام المرآة فى حركة مسرحية رائعة, ثم ينحنى إنحناءة خفيفة وهو يقول فى حماس:
- هل أعجبك المقال يا سيدى؟
تناهى إلى مسامعه صوت ضحكة ساخرة, فإلتفت إلى شقيقه (أحمد) الذى أخذ يصفق بيده فى تهكم, ويقول فى سخرية:
- يا إلهى!...لقد حركت مشاعرى؛ حتى أننى أشعر بقشعريرة تسرى فى جسدى.
زاد حنق (على) إلى أقصى حد مع سخرية شقيقه المستمرة, ولكنه حاول تجاهل ذلك حتى لا ينفجر فى وجهه, وإكتفى بالنظر إليه لدقيقة كاملة, و(أحمد) ينجح فى كتم ضحكاته رغم أنه يجد صعوبة فى ذلك, وبدا ذلك واضحا لـ(على), ولكنه لم يعلق على ذلك, فتنهد تنهيدة كبيرة وهو يضع يديه حول خصره ويسأل شقيقه بكل هدوء:
- ما رأيك الآن؟...هل أعجبك المقال؟
تنحنح (أحمد) ليكتم ضحته قبل أن يقول:
- رائع, لقد أعجبنى أداؤك كثيرا
ثم أضاف وهو يبتسم إبتسامة خبيثة:
- ولكن من الذى سيخرج الآن من الباب الصغير؟
فهم (على) ما الذى يشير إليه (أحمد),ولكنه لم يعلق على حديثه؛ وإنما أسرع بإعداد حقيبته وتعديل هندامه للمرة الأخيرة قبل أن يلتقط الوسادة الصغيرة ويلقيها فى وجه شقيقه -الذى كان يضحك فى هيستيريا شديدة- وهو يقول:
- شكرا على حسن الإستماع.
ثم إلتقط حقيبته وأسرع الخطى نحو الخروج, وأغلق الباب خلفه فى قوة...باب حجرته الصغيرة.

**********

وقف (على) أمام مكتب رئيس التحرير, وسرى فى جسده توتر بلا حدود عندما سمع صوت السكرتيرة الحسناء تأذن له بالدخول, فتردد لحظة قبل أن يدفع نفسه إلى الداخل.
تقدم (على) فى خطوات بطيئة نحو المكتب الذى يجلس خلفه رئيس التحرير, وهو يتطلع إلى أثاث وديكورات المكتب فى إنبهار و...

" حسنا, لماذا طلبت مقابلتى؟؟ "

قطع أفكاره ذلك التساؤل الذى ألقى به رئيسه, وبدا أنه لا يرغب فى إضاعة الوقت, مما زاد توتر وإرتباك (على), وبدا ذلك واضحا وهو يقدم له المقال ويقول فى خفوت:
- هذا المقال يا سيدى.
نظر إليه رئيسه بضع لحظات قبل أن يمد يده ليلتقط المقال فى خشونة ويقول فى صرامة:
- وما الذى يحتويه هذا؟
تردد (على) لحظة قبل أن يقول فى إرتباك:
- هذا مقال أعددته عن الثورة, وأتعشم أن...أن...
كان لسانه يعجز عن النطق بـ (أن تنشره فى الصفحة الأولى), وبدت له الجملة ثقيلة جدا, ولا يدرى سبب تلك الرجفة التى سرت فى أوصاله فى تلك اللحظة بالذات؛ فاكتفى بقول:
- أن ينال إعجابك.
كان رئيسه يقلب صفحات المقال بلا أدنى إهتمام, و(على) يتابع قائلا:
- لقد سمعت بالصدفة عن تلك المسابقة التى أعلنتها على الكتّاب, وطلبت منهم كتابة أفضل تقرير عن الثورة؛ ففكرت فى أن تكون هذه فرصتى لأعرض عليك موهبتى فى الكتابة, والتى قد تستغلها فى...فى...
لم يجد (على) أى كلمات يكمل بها, فاكتفى بذلك القدر ووقف ينتظر رد رئيسه الذى توقف كثيرا عند الصفحة الأخيرة من المقال, وانتبه (على) لذلك, وفى أعماقه تصاعد الأمل, ولكنه سرعان ما تبخر عندما قام رئيسه بغلق الملف بهدوء وسلمه إليه فى يده وهو يقول:
- محاولة جيدة للكتابة...ولكن للأسف لن يتم نشره.
إبتلع (على) تلك الغصة التى تقف فى حلقه وهو يقول بصوت مبحوح:
- لماذا؟
تنهد رئيسه, ثم شبّك أصابعه أمام وجهه وقال:
- نحن هنا نعمل فى منظومة, ولكل فرد يعمل بها مهمة محددة, ولا يجب الخروج عنها, أو حتى محاولة تطوير نفسه, لأن هذا سيخِل بالإيقاعات الأخرى التى تسير بها المنظومة, فالمحرر يقوم فقط بإرسال الأخبار, والكاتب يقوم بإعادة صياغتها, والناشر يقوم بطباعتها, وأنا أقوم بالإشراف على هذه العملية؛ فكل شخص هنا لديه عمل محدد, ولا يجب الخروج عنه.
لم يفهم (على) فى البداية ما الذى يحاول قوله, ولكنه أدرك ذلك تماما بعد أن إستطرد قائلا:
- لقد تقدم بعض الكتّاب بتقاريرهم المطلوبة منهم, وسيتم نشر التقرير الخاص بالكاتب (حازم حمدى), إنه إبن رجل الأعمال المعروف, لا بد أنك تعرفه؛ فمشاريعه تملأ البلاد, ومنها ما يدعم تلك الجريدة التى تعمل بها.
نطق الجزء الأخير من حديثه بلهجة خاصة, مما جعل (على) يتردد لحظة قبل أن يقول:
- وهل التقرير الذى تقدم به أفضل من تقريرى؟
صمت رئيسه طويلا هذه المرة, ثم تراجع فى كرسييه وهو يقول:
- هناك بعض الأمور التى لا تخضع للقواعد, فشخص ما ينجح؛ لأنه يجب أن ينجح, وشخص ما يحصل على منصب؛ لأنه يجب أن يحصل على المنصب...
ثم نظر إليه بضع لحظات قبل أن يقول بلهجة خاصة وهو يضغط حروف كلماته:
- وشخص ما يُنشر مقاله؛ لأنه يجب أن يُنشر مقاله.
أدرك (على) تماما حقيقة الأمر, ولماذا لن يتم نشر مقاله, ولكنه حاول أن يقول شيئا إلا أن رئيس لم يمهله الوقت ليقول فى حدة:
- لقد إنتهت المقابلة.
لم يستطع (على) أن يعقب على حديثه مع تلك الغصة التى وقفت فى حلقه, والتى شعر بأن حنجرته تتحطم وهو يبتلعها؛ فالتقط المقال بيد أصابها التوتر الزائد بالإرتعاش, وإلتفت يغادر المكتب, وهو يشعر بأن ساقه لم تعد قادرة على حمله, أو أنه قد زاد عمره خمسون عاما, وعندما خرج من المكتب وأغلق الباب خلفه شاهد إحدى الشاشات تعرض صورا للثورة وأحداثها, وكانت الصور تصف موقف الشعب أثناء ثورته, وتعرض اللوحات التى رفعها والشعارات التى كتبها والتى كانت من بينها:

" لا للرشاوى..."
" لا للوساطة..."
" لا للمحاباة..."

وغيرها من الشعارات التى وصفت حال البلاد فى العهد القديم, والتى بسببها قامت ثورة الشعب, وأدرك فى هذه اللحظة أن هناك أمور لا يمكن تغييرها لا بالشعارات ولا بالثورة ولا حتى بالنار, لأن هذه أمور تترسخ بداخل نفوس الأشخاص منذ أن بدأ الخلق وستستمر إلى نهايته.
وفى الوقت الذى عرضت فيه الشاشات صور ما بعد الثورة والتى تصف فرحة الشعب بنجاحها, والقضاء على الفساد, إبتسم (على) وقال فى سخرية:
- إذا كان هذا هو النجاح الذى تنشدونه, فثورتكم إلى الضياع.
فهو أيقن فى هذه اللحظة أن نجاح الثورة لم يصل فقط إلا إلى تغيير الوجوه, ولم يدرِ لماذا دار بخلده فى هذه اللحظة أن يقوم هو بثورة يعلن فيها غضبه وإحتجاجه على ما حدث معه, ولكنه عاد ليبتسم مرة أخرى, بل وإتسعت إبتسامته وهو يتخيل أن تصل ثورته إلى النهاية ويجد أن النجاح الذى حققه مجرد سراب؛ فابتسم مرة أخرى وهو يقول فى سخرية:
- ربما كنت محقا أيها الوغد...بعض الأمور لا تخضع للقواعد!
وإلتفت خلفه ليلقى بمقاله فى سلة المهملات, ثم إستدار متجها نحو الباب, وفى اللحظة التى وصل فيها إلى الباب, مرّ أمام عينيه شريط قصير بالحوار الذى دار بينه وبين شقيقه, وترددت فى رأسه تلك الجملة التى ألقاها شقيقه:

" من الذى سيخرج الآن من الباب الصغير..."

عاد ليبتسم مرة أخرى, وشعر أن كل شىء حوله يتعمد إستفزازه, فأمسك مقبض الباب بقوة, وجذبه ليخرج, ثم أغلق الباب خلفه بعنف وهو يقول:
- ربما كنت محقا أيضا أيها الوغد...ولكن باب الجريدة ليس صغيرا.
تنبيه : المرجوا عدم نسخ الموضوع بدون ذكر مصدره المرفق بالرابط المباشر للموضوع الأصلي وإسم المدونة وشكرا
abuiyad