نصف آلي ..... بقلم الاستاذ / مصطفى رزق

 
نصف آلي
بقلم / مصطفى رزق


" هل قد تنقلب الآلات على البشر يوما ما, وتُخضعهم لسيطرتها؟! "

" هل من الممكن أن نرى اليوم الذي يأتى فيه دور الآلات لتتحكم فى البشر؟؟ "

ربما كانت هذه واحدة من ألمع الأفكار الخاصة بروايات وأفلام الخيال العلمى, وقد تركت أثرا وانطباعا كبيرا فى النفوس, وخاصة مع هذا الحد المخيف الذى وصلت إليه التكنولوجيا؛ فيوشك ألا يوجد شيء واحد قد تقع عينيك عليه ولا يوجد به لمسة من التكنولوجيا, أو لمحة من التطور ومواكبة العصر؛ ولرُبما تسبب هذا الزخم الرهيب من التكنولوجيا فى هاجس يؤرقنا دائما, ويجعلنا نتخيل غزو فضائى للأرض, أو انقلاب الآليون على البشر وإخضاعهم لسيطرتهم!...ولكننا لم نعد بحاجة لتخيل ذلك بعد الآن؛ فحن على وشك الخضوع للآلات بالفعل, وإن شئت الدقة؛ فنحن أقرب للتحول إلى آلات...بشر آليون!

" ما هى الأمور التى تقوم بها خلال دورة حياتك الأسبوعية؟؟ "

إذا قمنا بمحاولة حصر الأمور التى تقوم بها خلال أسبوع واحد سوف تجد أنها بسيطة جدا وقد لا تتعدى أصابع اليد الواحدة؛ فعادة ما تستيقظ من نومك لتذهب إلى العمل ثم تعود لتقضى بقية النهار فى محاولة عمل شيء ما, أو حتى التحضير لعمل اليوم التالى حتى لا تستسلم للنوم مبكرا, ثم تقضى الليل ممددا على الأريكة أمام التلفاز, أو تضيّعه بصورة أخرى أمام جهاز الكمبيوتر, وأخيرا تقوم إلى النوم فى ساعة متأخرة نسبيا ليبدأ بعدها يوم آخر على نفس المنوال.
قد يتخلل الأسبوع جولة أو اثنتان للتسوق, أو قضاء بعض الأمور الثانوية, وفى الشهر قد لا يمكنك القيام بشيء واحد مختلف سوى ذهابك إلى مكتب الحسابات أو البنك لتقبض راتبك, بينما تكمل السنة وتختتمها برحلة قصيرة إلى أحد الشواطيء لقضاء الأجازة الصيفية, وبالرغم من أنك بهذه الطريقة قد تعتقد أنك تعيش حياة مثالية يطمح إليها الكثيرون, إلا أن هذا لا يحد مطلقا من الإيقاع الرتيب الذى تسير به حياتك...ما تقوم به اليوم هو نفسه ما تقوم به فى الغد, وقد سبق أن أنهيته بالأمس؛ فأنت ذلك الإنسان الهائل الذى لا يضع أى سقف لطموحاته وتطلعاته, ثم يختزل فى النهاية حياته كلها فى بضعة أمور بسيطة جدا, والأسوأ من ذلك هو أنه يقوم بها بطريقة تلقائية للغاية وكأنها جزءا منه, أو أنه قد طوّع نفسه عليها.

" إهدار طاقاتك وقصرها على أمور بسيطة جعلك أسيرا لنمط لا يمكنك التخلص منه "

هل تساءلت يوما, كيف أمكنك السير وسط الزحام وأنت سرحاَ ولم تصطدم بأحدهم؟!!
ألم يثير دهشتك يوما أنك كنت تسير فى طريقك ومستغرقا فى تفكير عميق فى أمر ما, ثم اكتشفت فى النهاية أنك تقف أمام باب منزلك؟!...كيف وصلت إلى المنزل ولم تشعر بهذا؟!, وكيف أمكنك تفادى الأشخاص فى الطريق إلى المنزل؟!!
هل تساءلت حتى كيف يستطيع الطب البشرى تحديد صحة التوقيعات الخاصة بالأشخاص, وكيف يمكنه أن يجزم بأن هذا هو الخط الذى تم كتابته بواسطة هذا الشخص؟!
الأمر بسيط جدا؛ فما يحدث هو أنك تكون خاضع لنمط معين فى حياتك يحكم تصرفاتك وحركاتك وسكناتك, ومهما كنت حذرا لا يمكنك التخلص منه أبدا؛ فمثلا عندما تقوم بوضع كلمة مرور لجهازك أو هاتفك المحمول أو بطاقتك الائتمانية قد تستخدم حروف اسمك, أو تاريخ ميلادك, ثم تجد نفسك تميل إلى هذه الحروف دائما, وعندما تقوم بوضع كلمة مرور لأى شيء آخر؛ فإن هذه الحروف والأرقام هى أول ما يخطر ببالك, وعندما تقوم بكتابة نص ما سوف تكتشف أنك تقوم برسم بعض الحروف بطريقة معينة, وتتبع قواعد نحوية وإملائية قد اعتدت عليها منذ الصغر؛ فتقوم بإعادة استخدامها مرة أخرى بدون تفكير...ويمكنك إجراء اختبار بسيط لتكتشف ذلك, فقط قم بكتابة أى نص بتلقائية وبدون أى قيود, ثم قم بكتابته مرة أخرى وأنت تحاول أن تغير من صيغة الكتابة أو طريقة رسم الحروف, وعند مقارنتك للنصين معا سوف تكتشف أن هناك حروفا قد سقطت فيها ولم تستطع الهرب من النمط الذى اعتدت عليه؛ فإذا كنت تكتب مثلا حرف الياء هكذا (ى) بدون نقطتين, ستجد أنك إذا حاولت أن تكتبه هكذا (ي) بنقطتين أسفل منه سوف تهرب يدك إلى الحرف الذى تعودت على كتابته.
قد يبدوا الأمر عسيرا وأن هذا المثال صعب الفهم ولا يوضح كثيرا, ولكنى سأضع أمامك مثال بسيط جدا لموقف قد مررنا به جميعا سوف يثبت لك صحة ما أقول؛ فأول شيء تقوم به عندما تدخل أى غرفة فى المنزل هو أنك ترفع يدك لتضغط زر المصباح لتضيء الغرفة, ولكن فى حالة انقطاع التيار تكتشف أنك مازلت مصرا على فعل نفس الأمر عندما تدخل الغرفة المجاورة؛ فتجد أن يدك بكل تلقائية ترتفع مرة أخرى لتضغط على الزر لتكتشف للمرة الثانية انقطاع التيار الكهربى, ثم تتساءل فى دهشة: كيف أمكننى أن أنسى بهذه السرعة؛ فأنا للتو قد خرجت من الغرفة الأخرى وكنت أعلم بأمر انقطاع التيار الكهربى عندما حاولت إضاءة المصباح؟!!!
أعتقد أن الأمر بات واضحا الآن؛ فأنت وإن خرجت من غرفتك للتو ودخلت غرفة أخرى ستجد أن يدك ترتفع مرة أخرى ناحية زر إضاءة المصباح, وليس ذلك لأنك قد أصبت بالزهايمر أو أى فقدان جزئى للذاكرة, ولكن لأن هذا هو النمط الذى يحكم تصرفاتك ويجعلك تسير فى بعض الأمور بصورة تلقائية لأنك تعودت عليها, وهذا يشبه تقريبا القيادة الآلية التى تقوم بها عندما تسير فى طريقك وأنت مستغرق فى التفكير فى أمر ما, ثم تنتبه فجأة أنك قد وصلت للمنزل.

على كل حال؛ فإن أسوأ الأمور فى ظاهرها قد لا تكون بالقدر الذى نتوقعه, ولكنها تكون بسيطة جدا حتى نقوم نحن بتعقيدها؛ فنحن مازلنا نختزل العنصر البشرى فى المجتمع, ونعول دائما على الآلات فى قضاء الأمور, وحل المشكلات, والقيام بالعمليات الحسابية, ونسعى إلى تكبير الدائرة, ونأمل فى أن تتسع لتشمل كل ما عداها؛ حتى يمكننا الاسترخاء والاستجمام بينما تتكفل الآلات بالقيام بأعمالنا وتقديم كل وسائل الراحة والترفيه إلينا, ولعل التلفاز قد لعب دور الطبيب النفسى الذى استطاع أن يؤهلنا لتقبل هذا الواقع, وهذا النظام الجديد الذى أصبح فيه كل شيء يُدار آليا, حتى أننا لا نتخيل حجم الكارثة التى قد تحدث إذا ما انقطعت الكهرباء وتوقفت الآلات عن العمل لساعة واحدة فى المجتمع بالكامل.
كل شيء أصبح نسخة من نسخة من نسخة, ولا وجود لأى أصل يمكن الاستدلال به أو المطابقة عليه...فقط, قف على ناصية شارع مزدحم وراقب تحركات الأشخاص وانظر عن كثب إلى ملامحهم وتعبيرات وجوههم, وستكتشف أن كل شخص يتحرك وكأنه لا يشعر مطلقا بالآخرون من حوله, ولا يتبادلون السلام أو التحيات حتى, وكأنه لا وجود مطلقا لأى أشخاص آخرون حولهم بالرغم من أنهم يتصادمون ببعضهم, ولكن تلك الملامح الباهتة والوجوه الباردة التى لا تحمل أى تعبيرات تعكس وتوضح تماما تلك الحركة الآلية التى يقومون بها...فقط راقب تحركات الأشخاص وملامحهم فى أحد الشوارع المزدحمة, واستمتع بهذه الآلية المؤسفة التى يتحرك بها هؤلاء البشر الآليون.
ما يحدث لنا هو أننا نختزل دورنا فى المجتمع وطاقاتنا نقصرها فقط على بعض الأمور البسيطة التى لا تتناسب مطلقا مع قدراتنا ومع ما يمكننا فعليا القيام به وتحقيقه؛ فنصبح فى النهاية أسرى لنمط محدد نحن من أوجده, ولكننا الآن لا يمكننا التخلص منه؛ فيقوم المخ بالاسترخاء, بينما يتكفل العقل الباطن بقيادتنا وتوجيهنا, وهذا وحده يكفى بعدما وصلنا إلى هذه الدرجة من الاختزال والتهميش, وبالرغم من أن هذا قد يؤرقنا قليلا وينتقص من شخصيتنا أمام أنفسنا إلا أننا لا نحرك ساكنا فى محاولة لإصلاح الأمر, أو على الأقل إيجاد أى حلول وسطية...وكيف نفكر فى ذلك وقد أصبحنا عبيدا للتلفاز؛ نتحدث كما يتحدث, ونأكل ما يطلبه منا, ونلبس ما يخبرنا به؛ فاقتصرت اهتماماتنا على أمور أدنى تتعلق بكيفية الحصول على أكبر متعة ترفيهية والقضاء على أى بادرة ملل قد تتسلل إلينا...وبينما نحن كذلك لا ننتبه مطلقا إلى هيئتنا الجامدة عندما نسير, ولا إلى كلماتنا الجوفاء عندما نعبّر, ولا إلى نظراتنا الخاوية عندما نتأمل...ورويدا رويدا نكتشف أننا نتحول إلى بشر آليون...أو نصف آليون.
تنبيه : المرجوا عدم نسخ الموضوع بدون ذكر مصدره المرفق بالرابط المباشر للموضوع الأصلي وإسم المدونة وشكرا
abuiyad