إجـــــــــــــــــازة
بقلم / محمد عاشور
وجدها واقفة كعادتها كلما انتهت إجازته ، وحانت عودته إلى وحدته فى الجيش .
كانت تظهر إليه كشبح من بعيد فى جلبابها الأسود ومعها ابنها الصغير
ينتظرانه بعد الفجر لتعطى له الصرة التى تعدها منذ أن عرفت أنه رفيق ابنها
فى الجيش .
كان يأخذ الصرة التى وضعت بها الفطير ليعطيه لابنها قبل أن يستشهد فى النكسة .
وقتها لم تصدق نفسها وافترشت الأرض أياماً ترقب الطريق الذى كان يأتى ابنها منه .
عندما علمت بقدومه فى أول إجازة بعد فجيعتها فى ابنها انطلقت متشحة
بالسواد واقتحمت عليه دون استئذان داره ، وجدته جالساً مع والدته التى وضعت
له الطعام ، وفى فمه لقمة يلوكها وفى يده لقمة قد قطعها فى التو ، عندما
أبصرها واقفة بالباب وقد ذهبت نضارة وجهها ، وقد أكل منه الحزن وشرب ، نكس
وجهه فى الطعام وهو يلوك لقمة ولا يستطيع بلعها وقد غطت عينيه سحابة من
الدموع سرعان من انهمرت فى حجره ونزلت على كسرة الخبز التى فى يده .
هجمت عليه وهو جالس واحتضنته كما كانت تفعل عندما كان يمر عليها قبل أن
يذهب إلى بيته ليسلم عليها ويطمئنها على ابنها ، فكانت تسأله عن ميعاد
انتهاء الإجازة لتعد له الصرة ، ويحكى لها عما تريد أن تسمعه وزيادة ، حتى
إنها كانت تجلس فاغرة فاها فى شبه بلاهة من السرور ، فكان يعرف كيف يدخل
السرور على قلبها ، لكنه الآن ماذا يقول لقد فقده هو الآخر ، كما فقد بعضاً
من الذين كان يقص لها نوادرهم مع ابنها ، وما يفعلونه فى الصرة التى تتمزق
أوصالها بمجرد وصوله بها ، فيأخذ كل منهم جانباً يلتهم قطعة الفطير فى
نشوى .
بعدما فرغ من طعامه الذى لم يأكله ، ظلت جالسة بجواره تتحسس ملابسه الميرى ، وتطلب منه وعيناها تفيض أن يحكى لها عنه .
أخذ يقص لها ما كان يفعله مع الجميع ، وأنه كان يتباهى بفطير أمه الذى لا
تصنع أمرأة مثله ، ثم صمت ، ظلت تلازمه لتعرف كيف مات ، فأخذ يحكى لها
ويبكى وتبكى ولم تتركه إلا بعد أن وعدها بزيارتها مثلما كان يفعل .
ما حدث فى بيته حدث فى بيتها ، طلبت منه أن يقص لها عنه .
أخذ يحكى عما تريد أن تسمعه وزيادة ، لكنه فى هذه المرة كانت تسبق كلماته
كلمة كان يفعل .. كان يقول .. كان ... كان .... كان .... هو ومن كانوا ...
ظلا صامتين مدة ثم سألته عن موعد سفره .
وجدها واقفة تنتظره وقد أعدت الصرة له ومن بقى من أصحابه .
Zليلة العرس
بعد منتصف الليل كالعادة سمع الناس صراخها ، قالوا لبعضهم أنه يضربها .
كان بالفعل يضربها ، ويوسعها ضرباً ، وكانت تصرخ صراخاً رهيباً ، كأنه
صراخ لآلاف النساء يخرج من فم واحد ، وبرغم ذلك كانت تحبه ، وتزاد فى حبه ،
هذا الحب اللامعقول الذى يحدث بينها وبينه .
يجلس فى اليوم الثانى فى
المقهى ، يحكى عما فعله بها عندما خرجت له من البحر عارية يتناثر الماء
فوق جسدها ، وأنها فى كل مرة يراها تكون أجمل من سابقتها ، وفى كل مرة
تحاول أن تأخذه معها إلى الماء ، فيضربها ويوسعها ضرباً ، وهى تصرخ فيه
وتخبره أنه لن يتزوج غيرها ، وإن فعل سيكون آخر يوم فى عمره .
يستعجب
الناس عندما يسمعون ذلك ، فقد رأها أكثرهم ، فهى ليست جميلة ، فوجهها مثل
وجه القرد ، وشعرها لونه أحمر طويل تمشطه دائماً ، وقدماها قدما نعامة ،
أما جسدها فجسد إمرأة عارية ، فكيف يراها جميلة ؟
يقول لهم عجوز قد اتكأ على عصاه : ألم تعلموا أن الجن يتشكل فى أى صورة .... إنها تظهر له كأجمل إمرأة ليحبها .
تمر الأيام ويرى الفتاة التى يتعلق بها قلبه ويخطبها ، وتنتظر القرية كلها
ما سيحدث عندما يمر من عند الجنية ، وينتظرون حتى منتصف الليل ، ثم يسمعون
الصراخ الشديد فقد ظهرت له عارية جميلة ، وحاولت جذبه إلى الماء بالقوة
لكنه أخذ يضربها وهى تصرخ وتحذره بأنه لن يتزوج غيرها ، لكنه لم يضربها
وتركها وهى تصرخ وتهدده .
ليلة فرحه تجمع الناس وعلت الزينة وانتشرت
الأنوار ، وجلس بجوار العروس ، وبدأ الناس يصفقون مع المزمار ، لكن صراخها
أخذ يسمع من بعيد ثم بدأ يقترب ويقترب ويصم الأذان ، وأخذت الأشجار تهتز
وتتحطم من الاهتزاز وأخذ الناس يهرعون ثم يولون مدبرين ، فيختطف عروسه
ويهرول بها إلى داره ، لكنها ظلت تصرخ وتولول طوال الليل ولم ينم أحد من
أهل القرية .
بعد أن انتهت إجازة عرسه ، مر من مكانها ، رأها تخرج من
الماء كأجمل ما تكون ، وقد ارتدت فستان الزفاف وقالت له فى صوت كله صراحة :
هذه ليلة عرسنا .
أراد أن يدفعها ، لكنه وجدها ثابتة ، فرفع يده وهوى
على وجهها ، فلم تصرخ ، وجدها واقفة ولم تتزحزح ، وأراد معاودة ضربها
لكنها أمسكت بيديه واستماتت عليهما ، ثم أخذت تقهقه وهو يحاول التملص منها ،
لكنه وجد ملامحها تتغير ، يتحول وجهها مثل وجه القرود ، وشعرها إلى اللون
الأحمر ، وقدماها إلى قدم نعامة وقد إحمرت عيناها واتسعت كالطبق ، وقالت له
الليلة هى ليلة عرسنا .
سمع الناس صراخه ، ولم يتحرك أحدٌ من مكانه .
فى الصباح خرجت العروس تصرخ وتحمل على رأسها التراب ، والقرية فى إثرها ، حتى وصلوا إلى مكانها .
وجدوه طافياً على وجه الماء ، عارياً ، وقد امتلأ فمه بالطين وقد تعلقت أصابعه بكثير من القش .
تنبيه : المرجوا عدم نسخ الموضوع بدون ذكر مصدره المرفق بالرابط المباشر للموضوع الأصلي وإسم المدونة وشكرا
0 التعليقات: