تجربة الحياة ..... بقلم الاستاذ / مصطفى رزق

 
(تجربة الحياة)

" طنطا, طنطا...طنطا "
بقلم / مصطفى رزق


هتف سائق السيارة الأجرة بالعبارة بأعلى صوته, ووقف يستند براحته على مقدمة السيارة, وهو ينفث دخان سيجارته فى تلذذ, ولا يبالى مطلقا بتوسلات الركاب وصيحاتهم الغاضبة بسبب وقوفهم طويلا لانتظار ثلاث ركاب آخرين حتى يكتمل العدد النهائى للسيارة, وأخيرا صعد السيارة شاب فى العشرينات من عمره وقبع فى مكانه ساكنا حتى تنطلق السيارة, وما هى إلا خمس دقائق أخرى حتى اقترب رجل فى الأربعين من عمره ليسأل عن وجهة السيارة؛ فأجابه معظمهم فى نفس واحد وبنفاذ صبر؛ فتفهم حدتهم فى الرد وقام بالجلوس على المقعد المجاور لمقعد السائق؛ الذى أشار إليه بأنه سوف يدفع أجرة شخصين.
كان الرجل يبدو فى حالة مزاجية متغيرة ولا يرغب فى الخوض فى جدال عقيم كذلك الجدال الأزلى الذى لم يحتدم حتى الآن بين سائقى السيارات الأجرة والركاب بشأن الأجرة المحددة للمقعد المجاور لمقعد السائق, ولا بشأن العدد الحقيقى المطلوب لاكتمال المقعد الخلفى, ولكنه أشار له بالموافقة دون أن ينطق بكلمة واحدة, ثم أرخى رأسه إلى الوراء وأغمض عينيه فى انتظار انطلاق السيارة.

عاد السائق إلى وضعيته مرة أخرى ليكمل سيجارته فى هدوء حتى اقترب منه صاحب له وهو يقول فى لهجة غريبة:
- كيف أخبار ليلة الأمس أيها الزعيم.
نظر إليه فى تهالك, وهو يقول:
- إليك عنى, لا أطيق ذلك الصداع الذى سببه لى العقار الذى أعطيتنى إياه.
ضحك الصاحب فى سخرية وهو يقول فى مزيج من السخرية والشماتة:
- ألم أقل لك أن مفعوله قوى, ولن تتحمله؟.
ثم عاد يتلفت حوله فى حذر قبل أن يمد يده فى جيبه ويخرج شيئا ما, ويقدمه له قائلا:
- خذ هذه القطعة وضعها تحت لسانك حتى تنتهى.
ثم ربت على كتفه, وهو يقول ساخرا:
- ستتكفل بأنك تصعد بك إلى السماء.
ابتسم السائق وهو يأخذ المخدر فى لهفة ويضعه فى فمه بسرعة, ثم يقول غامزا:
- لا تنسى ميعادنا الليلة فى نفس المكان.
أومأ صاحبه برأسه وهو يغمز له بعينه ثم أطلق صفيرا وهو يستدير منصرفا, بينما تابعه السائق ببصره ثم أنهى آخر نفس فى سيجارته قبل أن يلقيها بعيدا ويلتفت إلى السيارة ليجد فتاة فى أوائل العشرينات تقريبا تقف أمامه وتسأله:
- هل هذه هى السيارة المتجهة إلى (طنطا)؟
أومأ برأسه وهو يجيبها بابتسامة لزجة:
- وإن لم تكن كذلك؛ فهى تذهب فقط من أجل عيونك.
لم تبادله الفتاة ابتسامته, ولم تعلق حتى على عبارته الاستفزازية, وإنما صعدت أخيرا لتجلس فى المقعد المتبقى, بينما اختلس السائق نظرة إلى ثوبها الضيق الذى يبرز مفاتنها وهو يغمغم فى نشوة عجيبة:
- سنصعد إلى السماء بسرعة جنونية.
استدار بعدها واحتل مقعده الخاص فى كابينة القيادة, ثم أدار السيارة لينطلق بعدها بالسرعة القصوى غير مبالى بالازدحام والتكدس فى الطريق, ولا الحفر والمطبات التى جعلت السيارة تتراقص, بينما انطلقت صيحات الغضب من الركاب مطالبة السائق بأن يتمهل قليلا, ولكنه لم يبالى بصيحاتهم هى الأخرى؛ فقام برفع صوت المسجل لأقصى درجة ليغطى على صوت الركاب قبل أن يستمع إلى تلك الأغنية الشعبية الغير مفهومة.

تململ الرجل فى المقعد الأمامى فى جلسته قبل أن يطلب من السائق أن يخفض من سرعة السيارة ويتمهل قليلا؛ فرد عليه السائق بابتسامة تحمل كل معانى اللامبالاة, وقد لاحظ الرجل ذلك؛ فهيئة السائق لم تكن طبيعية على الإطلاق خاصة وأن المخدر الذى تناوله قد بدأ تأثيره يظهر عليه؛ فربت الرجل على كتفه وهو يقول فى اهتمام:
- هل أنت بخير؟؟
التفت إليه السائق وهو يشيح بيده ويجيب بنفس الابتسامة قائلا:
- عار عليك, وهل تعتقد أننى قد أتأثر بأى شيء؟!
تطلع إليه الرجل مرة أخرى ولم يشعر بارتياح مع إجابته مطلقا, ومازال يشعر بأن السائق به خطب ما, وقد بدا ذلك واضحا فى هيئته وطريقة حديثه وقيادته المتهورة, ولكنه لم يشغل باله كثيرا وعاد يسترخى مرة أخرى فى مقعده ويغمض عينيه, ودام على ذلك الوضع عشرة دقائق كاملة مستغرقا فى تفكير عميق فى تلك المشكلة التى بينه وبين زوجـتـ...
قطع تفكيره ذلك الصرير المخيف الذى أصدرته إطارات السيارة نتيجة انحرافها الحاد؛ فهب مذعورا وهو ينظر إلى السائق الذى يتطلع إلى الطريق فى هدوء, عجيب وقدمه مازالت تضغط على دواسة البنزين لتزيد من سرعة السيارة, وهو يحاول أن يتجاوز تلك السيارة التى أمامه وكأنه يخوض فى سباق مع قائدها؛ فانحرف يمينا فى حدة لتعترض طريقه سيارة أخرى كانت تسير فى الاتجاه المعاكس, ولكنه لم ينتبه إليها؛ فجذب عجلة القيادة بسرعة فى محاولة يائسة لتفادى تلك السيارة التى وجدها أمامه فجأة, ولكن المسافة بينهما لم تكن كافية لتدارك الخطأ؛ فانحرفت السيارة بقوة بفعل القصور الذاتى بسبب السرعة الكبيرة التى تتحرك بها, وخرجت بالكامل عن الطريق, وصرخ الرجل فى وجه السائق بكل قوة:
- احترس!!!
ولكن السائق بهيئته تلك لم يبدو عليه أنه قد سمعه حتى, بل ولم يظهر أى انفعال على وجهه فى تلك الثانية الوحيدة التى أعقبها اصطدام مقدمة السيارة فى شجرة ثم تنقلب بعنف وتدور فى الهواء دورة كاملة قبل أن تستقر على جانبها أخيرا.

*******************

" ماذا؟!...هل رأيت هذا بنفسك؟؟ "

كتب (أحمد) العبارة فى صندوق المحادثة بينه وبين صديقه, بينما يجلس أمام جهاز الكمبيوتر الخاص به ليتصفح حسابه على موقع التواصل الإجتماعى, وما هى إلا لحظات حتى جاءه الرد من صديقه فى رسالة تقول:
- كلا, لم أكن حاضرا ولكنه أخبرنى بنفسه أنه قد استطاع أن يشرب خمس زجاجات دفعة واحدة.
مط (أحمد) شفتيه وهو يكتب له:
- حسنا, سوف نتأكد من صدقه الليلة.
جاءته رسالة أخرى سريعا تقول:
- هل ستكون حاضرا معنا اليوم؟؟
أجابه (أحمد) بسرعة:
- بالتأكيد, ولكن سأذهب أولا إلى (طنطا) لشراء بعض الأشياء, ثم أعود من هناك إليكم مباشرة.
أرسل له صديقه رسالة يتساءل فيها:
- سوف تشترى ماذا؟!
ابتسم (أحمد) وهو يكتب له:
- فى الواقع...هذه هى خطتى للخروج والحصول على مال.
مضت ثوانى قليلة قبل أن يرد صديقه برسالة مقتضبة تحتوى فقط على وجه يحمل ابتسامة خبيثة وآخر يحمل ابتسامة شريرة بعد أن فهم ما يشير إليه, ولم تمض دقائق خمس بعدها حتى أنهى (أحمد) الحوار وأغلق الجهاز فى هدوء ثم قام ليرتدى ملابس الخروج ويذهب إلى والدته ليتصنع الحرج والتردد أمامها قبل أن يطلب منها مبلغ خمسمائة جنيه؛ فسألته وهى تقطب حاجبيها:
- لم كل هذا المبلغ؟!...فى أى شىء سوف تحتاجه؟؟
تردد (أحمد) مرة أخرى وهو يقول:
- لقد أخبرتك سابقا يا أمى أننى أحتاج هذا المبلغ لألتحق بدورة تدريبية فى مجال الشبكات.
زوت الأم حاجبيها, وحاولت المماطلة قليلا ولكنها خضعت له فى النهاية كالعادة وأعطته المبلغ كاملا؛ فأخذه (أحمد) فى لهفة وخرج مسرعا؛ فهتفت والدته فى عتاب:
- ألن تقول شكرا حتى؟!!
ضحك (أحمد) وقال وهو يغلق الباب خلفه:
- عندما أعود.
أغلق الباب تقريبا فى نفس اللحظة التى ألقى فيها عبارته ثم مضى فى طريقه نحو موقف السيارات الخاصة بمدينة (طنطا), وما هى إلا ثلث ساعة أخرى حتى كان يقف أمام السيارة التى أوشكت على الاكتمال؛ فأخذ مكانه سريعا فى المقعد الثانى خلف مقعد السائق, ثم قام بوضع نظارته الشمسية, وأخرج هاتفه ووضع سماعات الأذن ليستمع فى هدوء إلى بعض الأغانى لتكون رفيقا له فى الطريق حتى يصل.

مضت دقائق عشرة أخرى قبل أن يأخذ السائق مكانه وينطلق بالسيارة فى قوة اهتزّ معها جسد (أحمد) ففتح عينيه نصف المغمضة وتنهد فى ضيق قبل أن يعود لإغلاقهما مرة أخرى والاسترخاء فى مقعده, ولكن ذلك بدا عسيرا عليه وخاصة مع تلك القيادة الغير مرنة على الإطلاق التى يقوم بها السائق, ولكنه حاول أن يتكيف مع الوضع وأخذ يفكر فى كيفية قضاء الليلة التى يعد لها هو وأصحابه, ويتخيل نفسه يراهن (حسام) على شرب أكبر عدد من زجاجات الجعة, أو يقوم بتدخين سيجارة كبيرة من الحشيش أو...
قطع أفكاره هذه المرة صوت صرير حاد لإطارات السيارة؛ ففتح عينيه بغتة ونظر أمامه ليجد السائق يحاول تجاوز السيارة التى أمامه؛ فانحرف عنها جانبا ليجد سيارة أخرى مسرعة تعترض طريقه, وصرخ الرجل الذى يجلس بجواره فى قوة:
- احترس!!!
وانحرف السائق بالسيارة مرة أخرى, وتمكن من تفادى السيارة بصعوبة, ولكنه وجد نفسه ينحرف عن الطريق ويتجه فى سرعة جنونية نحو شجرة, ولم تكن المسافة بينهما تسمح بأى ردة فعل أخرى, ولم يكن هناك أى مجال لتفادى الشجرة؛ فاصطدمت بها مقدمة السيارة فى عنف...منتهى العنف.

*******************

" ماذا؟!...هل رأيت هذا بنفسك؟؟ "

هتفت (مروة) بالعبارة وهى تخاطب زوجها (عبد الوهاب) الذى أخبرها للتو أن شخص مقرب إليه قد أخبره أن ابنهما الذى لم يتجاوز الخامسة عشر يدخن سجائر ويرافق مجموعة شباب فاسدة, وعاد ينفعل مرة أخرى وهو يقول فى غضب:
- لقد أخبرنى جارنا الأستاذ (محمود) بذلك, وقال لى بأنه رآه بنفسه وهو يفعل ذلك.
دارت (مروة) بعينيها فى أرجاء الحجرة وكأنها تحاول البحث عن كلمات مناسبة ترد بها؛ فقالت محاولة تهدئته:
- حسنا, اهدأ قليلا وسوف أفهم منه ما حدثـ...
قاطعها (عبد الوهاب) وهو يصيح فى ثورة:
- تفهمى ماذا؟!...ألا تخجلين من نفسك؟!...هل رأيتى الآن نتيجة إهمالك؟؟
قطّبت (مروة) حاجبيها وهى تقول:
- ماذا تقصد؟!
لوّح (عبد الوهاب) بيده وهو يقول:
- أخبرتك مرارا أن عملك هذا الذى تكرّسين له معظم وقتك سوف يقوض سلام بيتنا؛ فأنتى بالكاد تجالسين ابننا الذى لم يراكى أمّا ولا مربية له, وانتهى به الأمر الآن بإتباعه لرفقاء السوء.
هتفت (مروة) فى سرعة:
- وأخبرتك أنا قبل ذلك أن طبيعة عملى تحتم عليّ تخصيص جزء كبير من وقتى, وأننى أعمل جاهدة للتوفيق بين العمل وأمور البيت, ولم أتـ...
قاطعها (عبد الوهاب) مرة أخرى وهو يكاد ينفجر من الغضب:
- وكأنك الأولى التى تظن أنها سوف تنجح فى التوفيق بين العمل والبيت!!
ثم أردف وهو يصيح فى غضب هادر:
- أقول لك بأن ابننا فى طريقه للإدمان بسبب إهمالك, وأنتِ تتحججين بطبيعة عملك!!
صاحت (مروة) فى غضب هى الأخرى:
- أنت تحاول إلقاء اللوم والمسئولية عليّ فقط.
جذبها (عبد الوهاب) فجأة من ثيابها فى قسوة, وهو ينظر إليها بعينين متقدتين كالحمم, ويقول بكلمات أشد قسوة:
- أنتٍ السبب فى كل ذلك, وهذا ما أوصلتنا إليه غطرستك وغرورك وأحلامك الزائفة بتحقيق مكانة اجتماعية على حساب اهتمامك بالبيت وتربية أبنائنا.
ثم أردف بكلمات تقطر بالغضب والقسوة:
- فلتتخلى عن عملك هذا وتلتزمى بعملك الحقيقى فى بيتك وتربيتك لابنك, وإلا فبيت أباك أولى بكِ.
اتسعت عينا (مروة) وهى تنظر إليه فى دهشة بالغة, واحتبست الكلمات فى حلقها, وهى مازالت غير مصدقة ما سمعته للتو؛ فهذه هى المرة الأولى التى يكلمها (عبد الوهاب) بهذه الصورة, وهذه هى المرة الأولى التى يجذبها من ثيابها بهذه الطريقة؛ فطوال حياتهما معا لم تراه مطلقا غاضبا بهذه الدرجة, ولم يحدثها أو ينظر إليها هذه النظرات القاسية حتى أن وجهه يوشك على الانفجار من شدة الاحمرار أو كأن شياطين تتراقص أمام وجهه و...وانسابت دمعة على وجنتها.
لم تحاول حتى أن تنطق بأى كلمة أو تدفع يده بعيدا عنها, ولكنها اكتفت فقط بالتطلع إلى عينيه بنظرات تحمل كل معانى العتاب, ودموع منهمرة تحمل كل معانى الأسى.
لانت ملامح (عبد الوهاب) وتراخت يده وجذبها إليه وهى ترتعش وكأنها تعاتبه هى الأخرى على ما قام به, ثم حاول أن يقول شيء ما ولكن غصة كبيرة فى حلقه حالت دون ذلك, بينما نظرات (مروة) ودموعها تطلق سهاما نحوه تخترق صدره؛ فقام بالتراجع أمامها وحاول قول شىء ما للمرة الثانية ولكن عجز عن ذلك مرة أخرى؛ فأشاح بيده واستدار مغادرا المنزل فى خطوات سريعة, وأغلق الباب خلفه فى عنف تاركا زوجته وقد بدأ النشيج يقطّع أوصال صدرها.

غادر (عبد الوهاب) سريعا حتى لا يقوم بأى تهور أو أى عمل أحمق أثناء نوبة غضبه, وهو يأمل أنه لم يكن قد تسبب فى ذلك بالفعل؛ فأخذ يزفر فى قوة فى محاولة للسيطرة على أعصابه, ثم أخرج هاتفه المحمول واتصل بوالد زوجته ثم انتظر قليلا قبل أن يخبره أنه سوف يذهب إليه الآن ليتحدث معه قليلا, وعندما حاول أن يستفسر منه أجابه (عبد الوهاب) فى اقتضاب أنه فى طريقه لاستقلال أول سيارة ثم سيخبره تفصيليا بكل شىء عندما يلتقيه.
وعندما وصل (عبد الوهاب) إلى موقف السيارات قام بالاستعلام عن السيارة المتجه إلى (طنطا)؛ فأشار له أحدهم إليها فتوجه نحوها مباشرة وأعاد سؤاله على الركاب فيها؛ فردوا عليه بالإيجاب فقام بالصعود إلى السيارة وجلس على المقعد المجاور لمقعد السائق, الذى أشار له بأنه سوف يدفع أجرة شخصين, ولم يكن (عبد الوهاب) وقتها فى حالة مزاجية للدخول فى أى نقاش, بل لم يحاول أن يستفسر حتى عن سبب زيادة أجرته, ولكنه أغمض عينيه وأرخى رأسه إلى الوراء فى محاولة للاسترخاء واستعادة الهدوء, ولم يطل الأمر كثيرا حتى انطلق السائق بسيارته بسرعة كبيرة, وحاول تجاهل ذلك بالإضافة إلى صوت المسجل المرتفع, وأخذ يستعيد حواره مع زوجته الذى لم ينتهى على خير ما يرام, ويتأسف فى كل مرة على هذه النهاية التى دفعه إليها غضبه وحماقته؛ فخرج مسرعا حتى لا يزيد الطين بلة, وقرر أن يذهب إلى والد زوجته ليعتذر له منها قبل أن يحاول أن يسترضيها وحتى تمر تلك اللحظات العصيبة ويصفو الكدر بينهما مرة أخرى.
تململ (عبد الوهاب) فى مقعده ثم طلب من السائق أن يتمهل ويخفض السرعة قليلا, وقد لاحظ أن السائق ليس طبيعيا فى تحركاته وحتى سكانته, وحتى عندما سأله عن حالته كانت ردوده غير مريحة ولهجته عجيبة جدا, ولكن حتى مع ذلك حاول الاهتمام بالمشكلة الأكبر والتى تسبب فيها منذ قليل؛ فعاد يسترخى فى مقعده مرة أخرى وذهنه لم يتوقف لحظة عن استعادة حواره بين زوجته وصورة واحدة لم تفارق ذهنه أبدا...صورة زوجته وهى تنظر إليه بعيون دامعة بينما هو ينظر إليها بمنتهى القسوة ويده التى تقبض على ملابسها فى خشونة تحول بينهما.
كانت نظراتها له أشبه برصاصات تخترق قلبه خاصة وأنه لم يفهم كيف تجرأ على أن يكلمها بهذه الطريقة أو...
قطع تفكيره بغتة ذلك الصرير الرهيب الذى أصدرته إطارات السيارة نتيجة انحرافها الحاد؛ ففتح عينيه بسرعة ليجد أن السائق تكسو ملامحه بلادة من نوع ما, وقدمه مازالت تضغط على دواسة البنزين ليزيد من سرعة السيارة بينما يحاول أن يتجاوز السيارة التى أمامه؛ فانحرف عنها بعنف ليجد سيارة أخرى فى الاتجاه المعاكس تعترض طريقه؛ فصرخ فى وجهه فى قوة:
- احترس!!!
ولكن صيحته هذه جاءت متأخرة؛ فقد انحرفت السيارة عن الطريق بعد أن حاول السائق تفادى تلك السيارة التى تعترضه ليجد نفسه فى مواجهة شجرة لم تفصله عنها سوى أمتار قليلة قطعتها السيارة بسرعتها الجنونية فى أجزاء أقل من الثانية, ولم يكن هناك مفر من الاصطدام.

*******************

" ماذا؟!...هل رأيت هذا بنفسك؟؟ "

هتفت (سلمى) بالعبارة فى خفوت شديد عبر هاتفها المحمول بينما كانت تجلس فى غرفتها وتحدث شخص ما على الطرف الآخر, وكان من الواضح أنها لا ترغب فى أن يسمع حديثهما أحد؛ فقامت بإحكام إغلاق غرفتها, وانتظرت قليلا قبل أن تسمع صوتا يقول ساخرا:
- نعم, لقد سمعته وهو يطلب أن يقبلها, ولكنه طلب ذلك مازحا, أو ربما اصطنع ذلك.
ردت عليه (سلمى) فى حدة:
- وكيف تسمح له (غادة) بأن يقول لها ذلك؟!!
أجابها على الفور:
- وماذا فى هذا؟!...من حق أى شخص أن يعبر عن حبه لفتاته بأى طريقة يراها مناسبة
ثم أردف فى خبث شديد:
- أليس كذلك؟
همّت (سلمى) بقول شىء ما, ولكنها توقفت لتقول بلهجة تحمل مزيج من العتاب والتحذير:
- (هيثم)...لا أعتقد أنك قد تفقد عقلك, أليس كذلك يا حبيبى؟؟
تناهى إلى مسامعها صوت طرقات على باب غرفتها فى هذه اللحظة؛ فقاطعت حديث (هيثم) لتقول فى اضطراب وبصوت خافت:
- سأقفل الآن ونكمل لاحقا, ولا تنسى لقاءنا اليوم فى (طنطا)...سأنتظرك فى نفس المكان.
أغلقت هاتفها بسرعة دون أن تنتظر حتى لتسمع الرد, ثم قامت بسرعة لتفتح الباب لتجد والدتها تنظر إليها فى استنكار قبل أن تسألها قائلة:
- كنتى تتحدثين مع من؟؟
تنحنحت (سلمى) وهى تقول:
- إنها (غادة) صديقتى كانت تطلب منى زيارتها بعد قليل.
سألتها والدتها مرة أخرى:
- ولماذا تغلقين غرفتك على غير العادة؟!
هزّت (سلمى) كتفيها وقد استعادت رباطة جأشها لتقول فى هدوء وتلقائية:
- لا شىء...فقط بعض الخصوصية.
نظرت إليها والدتها ولم تعلق على عبارتها, ثم استدارت تغادر الغرفة وهى تقول:
- حان موعد الغداء...نحن فى انتظارك.
أجابتها (سلمى) على الفور:
- معذرة, ولكنى سأذهب إلى (غادة) الآن وربما أتناول معها الغداء.
حاولت والدتها أن تعترض, ولكنها أغلقت غرفتها مرة أخرى لتبدل ملابسها سريعا, ثم تخطو بخطوات سريعة خارج المنزل متجنبة كل النقد والعتاب من أفراد أسرتها, ولم تحاول حتى أن ترد على أحدهما حتى تتجنب الخوض فى جدال كبير.

وفى طريقها أخرجت هاتفها وأرسلت رسالة نصية إلى (هيثم) تقول فيها:
- أنا فى طريقى الآن إلى (طنطا)...لا تتأخر هذه المرة كالعادة لأننى لا أمتلك سوى ساعة واحدة.
مضت دقائق عشرة كانت قد وصلت بعدها إلى موقف السيارات الخاصة بمدينة (طنطا), لتسأل السائق عن وجهة السيارة, والذى حاول مغازلتها بصورة مقززة, ولكنها كانت قد اعتادت على مثل هذه الأمور التى تتعرض لها يوميا من نظرات الشباب ومغازلتهم لها, وهى لا تفهم أحيانا سبب ذلك؛ فهى لا ترتدى ثيابا فاضحة ولا تسرف فى وضع مساحيق التجميل...صحيح أن والدتها تعترض كثيرا على ثيابها الضيقة والمثيرة نوعا ما, ولكنها لا تأبه لذلك فهى تتماشى مع الموضة, وهذه هى الثياب العصرية التى تناسب سنها, وعلى كل حال هى لم تحاول تبرير ذلك طالما هى لم تفعل شيء خاطيء...أو هكذا تعتقد.
لم تكد تستقر فى مقعدها حتى وصلتها رسالة على الهاتف من (هيثم) يقول فيها:
- حسنا, سوف أخرج الآن, ولكن لماذا ساعة واحدة بالتحديد؟!
انطلق السائق بالسيارة فى نفس اللحظة التى كانت ترد فيها برسالة أخرى:
- لقد أخبرت أمى أننى ذاهبة إلى (غادة) وهى لا تعلم مطلقا أننى فى طريقى إلى (طنطا)
مضت فترة ليست بالقصيرة قبل أن تصلها رسالة أخرى من (هيثم) يقول فيها:
- وماذا لو ذهبت إلى (غادة) أو اتصلت بكى هناك؟؟
عادت تعتدل فى جلستها وهى ترسل ردها:
- (غادة) ليست فى المنزل, وإذا اتصلت بى هناك سأخبرها أننا خرجنا سويا, كما أن (غادة) متفهمة هذه الأمور وتستطيع مجاراة والدتى إذا اتصلت بها فى أى وقت
مضت دقائق أخرى سريعة قبل أن تصلها رسالة (هيثم) التى يقول فيها:
- أنا غير مندهش تماما!!!
ابتسمت (سلمى) وهى تقرأ هذه الكلمات التى زادت من نرجسيتها وشعورها بالتفوق والدهاء, ثم كتبت له رسالة أخرى تقول فيها:
- المهم الآن أننى يجب ألا أتأخر, وأن أعود قـ...
توقفت عن كتابة الرسالة عند هذه النقطة بسبب ذلك الصرير القوى الذى أصدرته إطارات السيارة قبل أن يندفع جسدها للأمام نتيجة انحراف السيارة الحاد لتطلق بعدها صرخة رعب قصيرة, وهى تنظر إلى الطريق أمامها عبر الزجاج الأمامى للسيارة التى يحاول السائق السيطرة عليها وتفادى تلك السيارة التى اعترضت طريقه بغتة, والرجل الذى بجواره يصرخ فى وجهه فى قوة:
- احترس!!!
فانحرف السائق عن الطريق وانطلقت صرخات الركاب وصيحاتهم عندما رأوا السيارة تتجه فى سرعة جنونية نحو شجرة لتصطدم بها, بينما انطلقت صرخة (سلمى) مدوية لتغطى على أصواتهم جميعا, وحتى ذلك لم يشفع فى تفادى الشجرة التى اصطدمت بها مقدمة السيارة فى عنف...منتهى العنف.

*******************

تجاوز السائق السيارة التى أمامه وهو يزيد من سرعة السيارة ليجد سيارة أخرى فى الاتجاه المعاكس تعترض طريقه ولم تكن المسافة بينهما كافية لتفاديها؛ فانحرف بالسيارة جانبا فى محاولة يائسة لتفادى السيارة ليجد نفسه قد انحرف عن الطريق ويتجه نحو شجرة على جانب الطريق فى سرعة جنونية, بينما فقد السيطرة والتحكم فى السيارة بسبب القصور الذاتى الناتج عن الانحراف الحاد للسيارة؛ لذا فلم يكن هناك مفر من الاصطدام بين الشجرة ومقدمة السيارة التى ارتفعت إطاراتها الجانبية لتدور فى الهواء دورة كاملة قبل أن تنقلب فى عنف وتستقر على جانبها أخيرا.
توقف سائقى السيارات الأخرى على الفور, وأسرع الجميع لإنقاذ الركاب بينما حاول بعضهم الاتصال بسيارة الإسعاف, ولحسن الحظ أن الشجرة كانت على رأس أرض زراعية؛ فامتصت جزء كبير من صدمة السيارة التى كان من الممكن أن تتحول لكارثة إذا ما اصطدمت بسيارة أخرى.
قام بعض الأشخاص بفتح باب السيارة الذى لم يتضرر كثيرا وحاولوا إخراج من بالداخل وإسعافهم بينما انطلقت صرخات وتوسلات الركاب المصابين والعالقين بداخل السيارة فيما حاول البعض تهدئتهم.

(سلمى) تم إخراجها أولا فقد كانت تجلس على المقعد المجاور للباب, وتبين أن رأسها قد اصطدم بزجاج الباب فى عنف مما نتج عنه جرح غائر فى مقدمة وجهها, الذى سال عليه الدم وأغرقه, وبالرغم من شدة الصدمة إلا أنها لم تفقد وعيها وإنما حاولت التلفظ بكلمات غير مفهومة بينما يحاول شخصين أو ثلاثة إخراجها وإبعادها عن موقع الحادث إلى أن أجلسوها فى مكان بعيد نسبى, وحاول أحدهم تطبيب جرحها ليوقف النزيف, وهى مازالت تحاول جاهدة قول شىء ما لكن الكلمات خرجت منها متحشرجة وغير مفهومة؛ فحاول أحدهم تهدئتها وهو يطلب منها أن تفصح وتبين ما تريد قوله؛ فاستجمعت ما تبقى من بأسها لتصرخ بعبارة واحدة:
- أرجوكم, لا تخبروا أمى.
ثم انفجرت بعدها بالبكاء, وأثار هذا دهشة الكثيرين الذين لم يفهموا السبب فى طلبها الغريب, ولكن حتى هذا لم يمنعهم من محاولة تهدئتها وإسعافها فيما انهمك آخرون فى محاولة إخراج باقى المصابين والذين كان من بينهم (أحمد) الذى أصيب بكسر فى ذراعه وجرح فى رأسه نتيجة اندفاع جسده للاصطدام بمقعد السائق الذى كان يجلس وراءه, وقام أحدهم بحمله بعيدا عن موقع الحادث ليقوم بإسعافه, وفى ظل الآلام الرهيبة التى اجتاحت جسده ورأسه لم تفارق ذهنه صورة والدته وهى تراه يعود إليها ليمارس كذبه عليها مرة أخرى بشأن الحادث بعد أن أصبح متمرسا ويستطيع خداعها وإقناعها بأى شىء وحينئذ...حينئذ فقط, تحجر الدمع فى عينيه وقد أدرك أنه لا يستطيع أن يكذب عليها مرة أخرى, أو على الأقل هذه المرة؛ لذا فلم يحاول إرهاق عقله للبحث عن قصة يبرر بها هذا الحادث, وترك العنان لدموعه التى أغرقت وجهه, وتصاعد نشيجه الذى انتفض معه جسده بينما تناسى تماما تلك الآلام التى شملت جسده.

حاول بعض الأشخاص فتح الباب الأمامى الذى تضرر كثيرا من الصدمة وأصبح عالقا لا يمكنهم فتحه بسهولة؛ فقام آخرون بالإجهاز على ما تبقى من زجاج السيارة الأمامى ليخرجوا جسد السائق الذى فقد وعيه تماما على الرغم من أن إصابته لم تكن خطيرة جدا, بينما إصابة (عبد الوهاب) كانت بالغة بحق؛ فمع اصطدام السيارة بالشجرة اندفع جسده للأمام ليصطدم رأسه بزجاج السيارة ثم يرتد مرة أخرى ليتلقى صدره ضربة قوية بسقوطه على كابينة القيادة ليسقط بعدها وقد انحشر جسده بين المقعد وكابينة القيادة؛ مما سبب ضغطا كبيرا على ضلوعه وشعور رهيب بالاختناق؛ فقام الناس على الفور بتخليصه من المقعد وإخراج جسده فى صعوبة بينما اكتنفته غيبوبة قوية وهو يقاومها فى صعوبة؛ فسحبه البعض بعيدا ليلتقط أنفاسه التى كانت قد أوشكت على الانقطاع تماما, وهو يشهق ويزفر فى صعوبة بالغة حتى أنه شعر أن ضلوعه تكاد أن تتحطم, ولكنه على الرغم من ذلك أمسك فى ثياب أحدهم وجذبه إليه فى وهن واضح؛ فاقترب منه الرجل بسرعة وهو يقوم بتهدئته ويربت على صدره وكتفه, ويطلب منه عدم بذل مجهود حتى تأتى سيارة الإسعاف, ولكن (عبد الوهاب) لم يأبه بتحذيراته مطلقا, وشهق فى قوة ليقول بصعوبة بالغة:
- زوجتى...أخبرها أننى...أننى...أنـ...
لم يستطع إكمال عبارته وقد انقطعت أنفاسه تماما, واكتنف رأسه صداع رهيب ليحيط به ظلام شديد وتكتنفه الغيبوبة مرة أخرى, ولكنه لم يستطع مقاومتها هذه المرة بعد أن خارت قواه تماما؛ فسقط فاقد الوعى, بينما ارتفعت أبواق سيارات الشرطة وسيارة الإسعاف التى قد وصلت فى نفس اللحظة تقريبا ليتسع المشهد قليلا ليشملهما, بينما نختزل نحن مشهد واحد لثلاث أشخاص فرّقت بينهما الظروف كلية, ولكن جمعهما مشهد واحد يقر ويبرهن على عبارة واحدة ندركها جيدا ولكننا نغفل عنها تماما:

" عند الموت نتمنى لو نعود قليلا لنصحح أخطاء قمنا بها...كان من الممكن تجنها, أو على الأقل تداركها "

قد نقر بأخطائنا ونعترف بها, ومع ذلك قد لا نهتم بمحاولة تصحيحها, ولا يؤرقنا ضميرنا حتى؛ وكأننا نقول لأنفسنا: فى وقت لاحق, سوف نفعل.
نغفل تماما أن الموت أقرب لنا من أى شىء قد مضى عنا, ونشعر بالندم عندما ندرك هذه الحقيقة متأخرة؛ ولكن تبقى الحقيقة الغامضة التى قد لا نستطيع تفسيرها, وهى أن الإنسان مهما أخطأ ومهما اعترف بذلك, لا يكون مستعدا لفعل أى شىء لتدارك هذا الخطأ إلا عند الموت...لماذا ليس قبل ذلك؟!!...لماذا؟!!
ربما عليه أولا أن يخوض تجربة يشعر بها بالقيمة الحقيقية للحياة...تجربة الحياة
تنبيه : المرجوا عدم نسخ الموضوع بدون ذكر مصدره المرفق بالرابط المباشر للموضوع الأصلي وإسم المدونة وشكرا
abuiyad